السبت، 28 مايو 2016

إجازة البُدَيريِّ لمحمد ابن زَين الدين الشَّهير بأصطا الدِّمَشقيِّ وولدَيه مصطفى ومحمد (تحقيق ودراسة)

الإمام البُدَيري صاحب الإجازة من علماء مصر الذين عاشوا في القرنين الحادي والثاني عشر الهجريين، تلك الحقبة التي لم تحظ بدراسات علمية متعمقة، بل كثير من الباحثين تقتصر معرفتهم عن تلك الفترة على الجبرتي (ت1237هـ) وكتابيه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" وهو المشهور بـ"تاريخ الجبرتي"، و"مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس"، ومرجع ذلك إلى أن كثيرًا من أدبيات هذا العصر لم تُنشر حتى يتعرَّف إليها الباحثون، ومن أهم المؤلَّفات الشاهدة على هذه الأعصار المشيخات والأثبات التي تتضمن تفاصيل الوضع العلمي والاجتماعي والاقتصادي وغير ذلك من الجوانب المختلفة للحياة، والتصور الصحيح عن هذا العصر لا يتأتي إلا بنشر نصوصه نشرًا علميًّا.
وفي هذا السياق يأتي نشر هذا النَّصِّ وهو إجازة البُدَيريِّ الدِّمياطي لأحد تلامذته، والإجازة هي إحدى طُرق تحمُّل العلم، بدأت مع رواية الحديث النَّبوي، ثم أصبحت من أهمِّ طُرق تحمُّل العلوم ونقلها ولم تعد مقتصرة على رواية الحديث النبوي، ولا سيما بعد التساهل الذي وقع في السَّماع في الأعصار المتأخرة وتباعد عصر الرواية.
والإجازة تعني "إذن المحدِّث للطالب أن يروي عنه حديثًا أو كتابًا أو كُتبًا من غير أن يَسمع ذلك منه أو يقرأه عليه، كأن يقول له: أجزتك أو أجزت لك أن تروي عني صحيح البخاري، أو كتاب الإيمان من صحيح مسلم. فيروي عنه بموجب ذلك من غير أن يسمعه منه أو يقرأه عليه" ([1]).
وفي اصطلاح المتقدمين هي "إخبارٌ، وإذنٌ"([2]) بالرواية، ويقال: "إذنٌ في الرواية لفظًا أو كتبًا يُفيد الإخبار الإجمالي عُرفًا"([3])، والمقصود أن الشيخ عندما يُجيز أحد تلاميذه برواية كتاب على سبيل الإجمال فيتنزل ذلك منزلة إخباره بكل الكتاب نظرًا لتوافر النُّسَخ في الأعصار المتأخرة([4]). ([5])
وهذا ما نجده هنا في إجازة الإمام البُدَيري فهو يجيز تلميذه محمد بن زين الدين الشهير باصطا الدمشقي بجميع مروياته في العلوم العقلية والنقلية، وبجميع أوراد الطريقة الشاذلية، والطريقة المزطارية المتفرعة من الشاذلية، وكعادة العلماء في ذاك العصر اقتصر على ذكر أهم كتب الحديث بعد أن قدَّم بمقدمة فصيرة عن أهمية علم الرواية، فذكر بعد المقدمة خمسة من كبار مشايخه وأعلاهم إسنادًا، ثم ثنَّى بروايته للكتب الستة المشهور فموطأ الإمام مالك، فمسند الإمام الشافعي، فمسند الإمام أحمد، فمسند الدَّارمي، فمسند الطَّيالسي، فمسند عَبْد بن حُميد، فمسند البزَّار، فمعاجم الطبراني الثلاثة الكبير والأوسط والصغير.
ثم نَصَّ على إجازته بجميع مصنفاته المنثورة والمنظومة، وذكر عناوين بعضها، وكان من بينها ثلاثة مصنفات لم يرد لها ذكر في مشيخته "الجواهر الغوالي"، وليس لها أي ذكر في كتب التراجم ولا كتب فهارس المخطوطات فيما وقفت عليه، وهي: كشف القناع عن الإقناع، وهو حاشية على "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" والإقناع هو شرح الخطيب الشربيني على متن أبي شُجاع في الفقه الشافعي، ودليل الحائر في معرفة وضع البسائط والمنحرفات وفضل الدائرة، وحُسن الدلالة في معرفة الوقت والقِبلة بغير آلة([6])، وأهمية ذِكر هذه المؤلَّفات هنا أيضًا معرفة تاريخ تأليفها إذ نستطيع الجزم أنها أُلِّفت قبل عام (1105هـ) وهو تاريخ الإجازة، وهذا التاريخ عاش المؤلِّف بعده خمسًا وثلاثين سنة.
ثم خُتمت النسخة، وكتب المؤلِّف تصحيحًا لما جاء فيها وتصحيحًا لنسبته إليه، وزاد في الإجازة لمحمد ابن زين الدين الدمشقي إجازة لولديه مصطفى ومحمد، ثم مهر ذلك كله بتوقيعه المؤرَّخ في 22 من المحرم الحرام سنة 1105هـ.
المؤلف ([7]):
أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن حسن بن علي بن سلامة بن بُدير بن محمد بن يوسف البُديريّ الدِّمياطيّ الحسيني الشافعي الشَّاذليّ النَّقْشَبَنْدِيّ، المعروف بابن الميت.
وُلِد الإمام البُدَيري في مدينة دِمياط سنة (1154هـ)([8])، ونسبة البُدَيريِّ هي لجَدِّه بُدَير، واتفقت المصادر -بما فيها مشيخة المؤلِّف نفسه- على هذه النسبة، كما نَسَبَ المؤلِّف نفسه في آخر هذه الإجازة للشيخ المزطاري (المسطاري)، وهو محمد بن أحمد بن محمد الشيخ الصالح الشهير، أبو عبدالله المكناسي الشاذلي، صاحب الطريقة المعروفة بدمشق وغيرها، الطريقة الشاذلية المزطارية ، المتوفّى (1107هـ)([9]).
نشأ المؤلِّف في بيئة علمية، واشتغل بالعلم من صغره، ويدل على ذلك أنه قد تصدَّر للتدريس بإجازة شيخه له قبل سنِّ البلوغ، كما نصَّ عليه في مشيخته. وكان شيخه الأول الزَّين الدِّمياطي في بلدته دمياط، وبعد أن أتقن عليه بعض العلوم وتصدَّر تدريسها في بلده انتقل إلى الجامع الأزهر، فجاور فيه بداية من سنة (1082هـ) وما بعدها، والأرجح أن مدة مجاورته في الجامع الأزهر استمرت إلى قريب سنة (1091هـ)؛ لأنه كان في تلك السنة مجاورًا في المسجد النبوي، كما نصَّ عليه في ثبته، وذكر أيضًا في هذه الإجازة أنه أخذ عن السيدة قريش الطبرية بمكة في العام نفسه، وهذه هي المرحلة الثالثة في رحلته العلمية، أعني الرحلة إلى أرض الحجار، بعد مرحلة النشأة في دمياط، ومرحلة النضج في الجامع الأزهر.
وتحصيله العلمي مدة مجاورته بالأزهر كان منصبًّا على علم القراءات، فأخذ القراءات العشر من طريق الشاطبية والدُّرة والطَيبة، وأُجيز في ذلك كله، بصحن الجامع الأزهر، في جمع من العلماء، وقال المؤلِّف ما نصه: "... أخذتُ التجويد والقراءات للعشرة من طريق الشاطبية والدُّرة  من أول القرآن إلى آخره عن البحرين اللذين لا ساحل لهما: شيخنا الشَّبرامَلِّسي المذكور - ضاعف الله له الأجور - وشيخنا شيخ القرَّاء الأزهري الشيخ محمد بن قاسم بن إسماعيل البقري، وختمتُ ذلك عليه في صحن الجامع الأزهر، بجمْعٍ  من العلماء، ما بين كبير وأكبر على عادته وعادة أشياخه من قبله ..."([10]).
كما رحل الإمام البُدَيري إلى الشام في سنة 1104هـ لأخذ الطريقة النَّقْشَبَنْدية على المنلا مراد اليزبكي الحنفي النَّقْشَبَنْدية، كما ذكر ذلك في ثبته، فقال: "وإني أيضًا قد أخذتها [أي الطريقة النَّقْشَبَنْدية] عن الإمام الهمام العارف الرباني الجامع بين الشريعة والحقيقة، الصمداني ذي القدم الراسخ في معرفة الطريق بالتحقيق المنلا مراد اليزبكي الحنفي، فقد رحلت له إلى دمشق الشام، وبلغت منه المرام، في سنة أربع بعد المائة والألف، قبل رحلته إلى بلاد الأروام ، وصنف لي في ذلك مقدمة صغيرة، وذكر فيها ما ليس لي عنه غنى، وعبارته بالحرف ما نصه ..."([11]).
وفي هذه الرحلة كان لقاؤه بمحمد ابن زين الدين الكفيري، فأجازه بتلك الإجازة التي بين أيدينا، كما جلس للإقراء في صحن الجامع الأموي بدمشق بين العشاءين، ودرَّس الأربعين النووية([12])، وذكر شمس الدين الغزِّي (ت1167هـ) في ثبته "لطائف المنة في فوائد خدمة السنة" أنه حضر دروسه بإرشاد والده زين الدين أبي الفضل عبدالرحمن الغزِّي (ت1118هـ).([13])





([1]) منهج النقد في علوم الحديث 215.
([2]) المختصر في علم أصول الحديث 118.
([3]) فتح المغيث 2/389.
([4]) منهج النقد في علوم الحديث 215-216، بتصرف يسير.
([5]) الإجازة من المباحث المهمة والرئيسية في علم الرواية، وتأتي الإجازة في الترتيب الثالث بين أدوات تحمُّل العلم -عند أكثر العلماء- بعد السَّماع من الشيخ، والقراءة عليه، أما أنواع الإجازة فقد أوصلها الحافظ العراقي (ت806هـ) في ألفيته إلى تسعة أنواع، ولا يتسع المقام للتفصيل في جزئيات مبحث الإجازة، وقد استوعبت المصادر هذا المبحث بالدراسة، وأهم تلك المصادر: الكفاية 2/267-356، وإجازة المجهول والمعدوم وتعليقها بشرط، والإلماع 88-107، ومعرفة أنواع علوم الحديث 331-350، وفتح المغيث 2/389-462.
([6]) لم أقف على أي منها في فهارس المخطوطات، أو فهارس الكتب أو كتب التراجم، ولكن المؤلِّف ذكر "حُسن الدلالة" هنا في إجازته لمصطفى ابن زين الدين الدمشقي، وفي إجازته لشمس الدين الغَزِّي (ت1167هـ)، التي أرسلها له من دمياط لدمشق عام (1118هـ) وذكر نصها الغَزِّي في ثبته "لطائف المنة" 120.
([7]) مصادر الترجمة: مشيخة المؤلِّف "الجواهر الغوالي في بيان الأسانيد العوالي" (مخطوط)، وفوائد الارتحال 2/102-104، وثَبَت الغَزِّي "لطائف المنة" 118-120، وعجائب الآثار 1/158، والتحفة البهية في طبقات الشافعية (ق466ظ- نسخة معهد المخطوطات، رقم (1487تاريخ) مصورة عن الأزهرية)، وهدية العارفين 1/319، وفهرس الفهارس 1/216 - 218، والأعلام 7/65، ومعجم المؤلفين 11/264، والرسالة المستطرفة 1/215، ومعجم المعاجم والمشيخات 2/78، ثم هناك مواضع متفرقة فيها الحديث عنه في تراجم شيوخه وتلاميذه. وقد ضبط المؤلف نسبته في توقيعه بخطِّه في آخر هذه الإجازة، وكذلك تلميذه الحفناوي في مختصره للجواهر الغوالي (ق2و)، وعبدالهادي الحنفي في "هادي المسترشدبن" 71 و 80: البُدَيري . وكذلك الزِّرِكلي في الأعلام. كما ترجم لجَدِّه "بُدير" كلٌّ من مجير الدين الحنبلي في "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" 2/146-147، والمناوي في "الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية" 2/395 رقم: 493.
([8]) فوائد الارتحال 2/103. ومصطفى الحموي (ت1123هـ) هو قرين المؤلف ورفيقه في طلب العلم، لذلك فما ذكره هنا أوثق مما ذكره شمس الدين  الغزِّي (ت1167هـ) في ثبته "لطائف المنة" 119، من أن البُدَيري ولد بعد الستين وألف.
([9]) ديوان الإسلام 4/183، وسلك الدرر 4/33.
([10]) الجواهر الغوالي (ق10ظ) نسخة الأزهرية [829 (53069) مصطلح].
([11]) الجواهر الغوالي (ق45ظ) نسخة دار الكتب المصرية [195مصطلح حديث].
([12]) لطائف المنة 56 و57.
([13]) لطائف المنة 119.

الأربعاء، 25 مايو 2016

كيفية وصف النُّسَخ الخطية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، وبعد

فهذه ورشة تدريبية عن كيفية وصف النسخ الخطية، أُلقيت في دورة تدريبية بعنوان "فهرسة المخطوط العربي"، في 2013 بمكتبة الأسكندرية.
والورشة وإن كانت مخصصة للمفهرسين، ولكنها أيضا مهمة للمحققين لأن المحقق ينبغي له أن يصف النسخ الخطية التي اعتمد عليها في إخراج النص، وقبل ذلك يحتاج لتقييم النسخ لاختيار أفضلها، وهذا الاختيار في الأساس مبني على الوصف العلمي الدقيق للنسخ.

والورشة يعطي نُبذ مهمة في تقاليد النساخة العربية، وصناعة الكتاب، ونُبذ في علم المخطوط العربي بوجه عام.