الثلاثاء، 14 يوليو 2015

تقييم النُّسَخ الخطية


هذه ورشة تدريبية ألقيتها في مكتبة الأسكندرية يوم 27 سبتمبر 2012 ضمن محاضرات الدورة التدريبية التي نظمها معهد المخطوطات العربية بالاشتراك مع مركز المخطوطات بمكتبة الأسكندرية.

والورشة التدريبية هدفها الرئيس هو الإجابة عن التساؤل:
"ما هي النسخة أو النُّسَخ التي ينبغي للمحقق أن يعتمد عليها في إخراج نص معين؟"
والإجابة عن هذا التساؤل تستلزم الكلام عن المعايير والإجراءات التي ينبغي للمحقق أن يقوم بها ويعتمد عليها في الوصول لتلك الإجابة.
في البداية سأذكر كلام العلماء في مراتب النُّسَخ من جهة أفضليتها ..
يلي ذلك الكلام عن الإجراءات التي سيتبعها المحقق لتقييم كل نسخة لمعرفة مرتبتها بين سائر النُّسَخ ..
تمر هذه الإجراءات بثلاثة عناصر رئيسية وهي:

  • غلاف النسخة.
  • حرد المتن (قيد الفراغ من النسخة) وملحقاته.
  • سائر النسخة من خلال علامات محددة.

في كل بند سنتكلم عن أهميته، وكيفية تقييمه، وإسهامه في القيمة الكلية للنسخة سلبًا أو إيجابًا..
ثم نطبق ما ذكرناه من معايير وإجراءات على أمثلة عملية لنُسَخ كتب عدة..

  

الأحد، 21 يونيو 2015

هل كتاب أمثال القرآن لابن القيم تصنيف مفرد




      منذ عشر سنوات تقريبا حققت كتاب أمثال القرآن لابن القيم وخرَّجت أحاديثه تخريجًا موسعًا، ودفعته لأحد الناشرين، ودفع لي تسعمئة جنيها حقوق مالية عن التحقيق!.. ولكني بعد أشهر أخذت منه الكتاب مرة أخرى ودفعت له ماله وألغينا عقد النشر، لشعوري وقتها أن هذا من التعجل فلا يلزم أن ينشر كل عمل خصوصا في البدايات ، أيضًا رأيت طبعات كثيرة للكتاب بعضها متقن. 

وأخبرني بعض طلبة العلم أثناء عملي في الكتاب – إخبارًا يحمل الاستنكار - أن الكتاب ليس تصنيفًا مفردًا، إنما هو مستل من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين".
وكان ابن القيم رحمه الله قد أدخل هذا الكتاب بالكامل في فصل قياس الشبه في كتابه "إعلام الموقعين" .. فتدبرت هذه الدعوى مرة ثانية ولم أكن قد أعطيتها حقها من قبل، فترجح عندي بعد البحث أن الكتاب هو كتاب مفرد ألفه ابن القيم تأليفًا مستقلاً ثم أدخله بعد ذلك في الموضع المذكور من "إعلام الموقعين"، ومن أسباب ترجيحي 

- أن ابن القيم رحمه الله قال في مقدمة "القصيدة النونية"، في معرض كلامه في ضرب الأمثال في القرآن، وأهمية فهم تلك الأمثال: "وسنفرد لها إن شاء الله كتابًا مستقلاً متضمنًا لأسرارها ومعانيها، وما تتضمنه من كنوز العلم، وحقائق الإيمان، وبالله المستعان، وعليه التكلان." اهـ [توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (1 /33) ط. المكتب الإسلامي].

وهذا بالفعل ما قام به في هذا الكتاب، فلو كان جمعه أمثال القرآن بهدف الاستشهاد بها في باب قياس الشبه لاكتفى بمثال أو مثالين.. 

- أن الحافظ ابن رجب ذكر الكتاب ضمن مؤلفات شيخه ابن القيم [ذيل طبقات الحنابلة 2 /450]، وابن رجب رحمه الله من تلاميذ ابن القيم المتأخرين، بل يقول ابن رجب: "ولازمتُ مجالسه قبل موته أزيد من سنة." اهـ  وصنيع ابن رجب يؤكِّد أن الكتاب أملي مفردًا في حياة ابن القيم. وربما بعد إملائه مفردًا أدخله المؤلِّف في "إعلام الموقعين" .

- أن الكتاب له نُسَخ خطية كثيرة في صورته المفردة..

الأربعاء، 25 فبراير 2015

حساب الجُمَّل الصغير


1
من طرق التأريخ في المخطوطات العربية، طريقة: "حساب الجُمَّل"، وهي طريقة قديمة استخدمها اليهود قبل بعثة النبي r، وكذلك استخدمها المنجِّمون، أما بداية استخدامها في تدوين تواريخ الانتهاء من نَسْخ المخطوطات فيحتاج مزيد تحرير واستقراء، ولكنها أقدم طرق التعمية استخدامًا، والذي يهمنا هنا أن العرب المسلمين استخدموا هذا النوع من الحساب في إثبات تواريخ الانتهاء من كتابة النُّسَخ الخطية، بل عرفوه قبل أن يعرفوا الأرقام الهندية، والتي تعرف الآن بالعربية، أو العربية (المستخدمة في المغرب العربي وفي اللغات اللاتينية الآن)، وقد عَدَّ ابن وحشية النبطي (ت بعد 291هـ) حساب الجُمَّل في أقسام القلم الهندي([1]).



وحساب الجُمَّل منه الكبير والصغير، أما الكبير فهو الذي اشتُهر وعُرف بيننا الآن، وهو الذي يُستخدم أحيانًا في تأريخ المخطوطات العربية، وليس محل بحثنا الآن لاستفاضة الكلام فيه.
والصغيرلم يُستخدم فيما نعلم في تأريخ المخطوطات العربية، ولكن استخدمه الصوفية في محاولة الكشف ومعرفة الغيب، واستخدمه المنجمون أيضًا، والسَّحرة في كتبهم، كالبوني في "شمس المعارف الكبرى" و"شمس المعارف الصغرى"، ولهذا السبب لم يشتهر حساب الجُمَّل الصغير، إنما فقط نجد له ذِكرًا من حين لآخر في بعض المصادر العربية المخطوطة دون تفريق واضح بينه وبين الكبير.
وحساب الجُمَّل يُسمَّى أيضًا: الجزم الكبير، والجزم الصغير. وفيما يلي بعض النصوص التي استنبطنا منها ماهية حساب الجُمَّل الصغير.

2
قال ابن عربي في الفتوحات المكية 1 /344 : ((وأما قولنا عدده كذا وكذا أو كذا دون كذا فهو الذي يُسميه بعض الناس "الجزم الكبير" و"الجزم الصغير" وقد يسمونه "الجُمَّل" عوضاً من "الجزم")) اهـ.

قال في الفتوحات المكية 1 /344 : ((وفائدة الأعداد عندنا في طريقنا الذي تكمل به سعادتنا إن المحقق والمريد إذا أخذ حرفاً من هذه أضاف الجزم الصغير إلى الجزم الكبير مثل أن يضيف إلى القاف الذي هو مائة بالكبير وواحد بالصغير فيجعل أبداً عدد الجزم الصغير -وهو من واحد إلى تسعة- فيرُده إلى ذاته.
فإن كان واحداً الذي هو حرف الألف بالجزمَين والقاف والشين والياء عندنا وعند غيرنا بدل الشين الغين المعجمة بالجزم الصغير..)) اهـ
في حساب الجُمَّل الكبير: أ = 1
وفي حساب الجُمَّل الصغير: أ ، ق ، (ش أو غ) ، ي =1

قال في الفتوحات المكية 1 /345 : ((وإن كان اثنان الذي هو الباء بالجزمَين والكاف والراء بالجزم الصغير..))
في حساب الجُمَّل الكبير: ب=2
في حساب الجُمَّل الصغير: ب ، ك ، ر =2

قال في الفتوحات المكية 1 /345: ((وإن كان (رقم الحرف) ثلاثة، الذي هو الجيم بالجزمَين، واللام والسين المهملة عند قوم، والشين المعجمة عند قوم، بالجزم الصغير..)) اهـ
في حساب الجُمَّل الكبير: ج = 3
في حساب الجُمَّل الصغير: ج ، ل ، (س أو ش) = 3

قال في الفتوحات المكية 1 /346: ((وإن كان (رقم الحرف) أربعة، الذي هو الدال بالجزمَين، والميم والتاء بالصغير..)) اهـ
في حساب الجُمَّل الكبير: د = 4
في حساب الجُمَّل الصغير: د ، م ، ت = 4

قال في الفتوحات المكية 1 /347: ((وإن كان (رقم الحرف) خمسة، الذي هو الهاء بالجزمَين، والنون والثاء بالصغير ..)) اهـ
في حساب الجُمَّل الكبير: هـ = 5
في حساب الجُمَّل الصغير: هـ ، ن ، ث = 5

قال في الفتوحات المكية 1 /347: ((وإن كان (رقم الحرف) ستة، الذي هو الواو بالجزمَين، والصاد والسين -على الخلاف- والخاء بالصغير..)) اهـ
في حساب الجُمَّل الكبير: و = 6
في حساب الجُمَّل الصغير: و ، ص ، (س) ، خ = 6

قال في الفتوحات المكية 1 /348: ((وإن كان (رقم الحرف) سبعة، وهو الزاي بالجزمَين، والعين والذال بالصغير ..)) اهـ
في حساب الجُمَّل الكبير: ز = 7
في حساب الجُمَّل الصغير: ز ، ع ، ذ = 7

قال في الفتوحات المكية 1 /348: ((وإن كان (رقم الحرف) ثمانية، الذي هو الحاء بالجزمَين، والفاء في قول، والصاد في قول، والضاد في قول والظاء في قول ..))اهـ
في حساب الجُمَّل الكبير: ح = 8
في حساب الجُمَّل الصغير: ح ، (ف) ، (ص أو ض) ، (ظ) = 8

قال في الفتوحات المكية 1 /348: ((وإن كان (رقم الحرف) تسعة، الذي هو الطاء بالجزمَين، والضاد أو الصاد في قول، وفي المئين الظاء أو الغين في قول، بالجزم الصغير ..)) اهـ
في حساب الجُمَّل الكبير: ط = 9
في حساب الجُمَّل الصغير: ط ، (ض أو ص) ، (ظ أو غ) = 9


وممن استخدمه الفيروزابادي (ت817هــ) في "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" (5/295 ط المكتبة العلمية).
واستخدمه أيضًا البُجَيرمي (ت1221هـ) في حاشيته على الخطيب (1/56).

الخلاصة
نستخلص من كلام ابن عربي:
أن حساب الجُمَّل الصغير تكون القيمة العددية فيه للأحرف تقاس بالأحاد فقط من (1 - 9)، كما أن القيمة العددية للأحرف تختلف باختلاف ترتيب الأبجدية بين المشرق والمغرب.
ويكون نمطه كما يلي:
نمط حساب الجُمَّل الصغير وفق الأبجدية المشرقية:

نمط حساب الجُمَّل الصغير وفق الأبجدية المغربية:

وتكون خلاصة القيمة العددية، كما يلي:
- وفق الأبجدية المشرقية:

- وفق الأبجدية المغربية:




[1] شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام (ص: 134)

الثلاثاء، 27 يناير 2015

نموذج من استخدام الشفرات السرية في الأندلس والمغرب العربي



في القرن السابع الهجري بدأت المصادر العربية تتناقل طريقة سرية في كتابة الأرقام بحيث لا يفهمها إلا فئات محدودة من آحاد العلماء، اشتهرت فيما بعد باسم "القلم الفاسي"، نسبة إلى مدينة فاس المعروف، ونسبت إليها لكثرة استخدامها بين علماء فاس.
والقلم الفاسي طريقة مبتكرة تعتمد على وضع رموز خاصة للأرقام الآحاد والعشرات والمئات وآحاد الآلاف وما فوقها، إلى ما لا نهاية له، وهذه الطريقة في الأساس اخترعها العلماء في بلاد المغرب الأقصى بقصد التعمية والإلغاز، والتعمية عُرفت في التراث الإسلامي والمقصود بها "تحويل نص واضح إلى نص غير مفهوم باستعمال طريقة محددة، يستطيع من يعرفها أن يعود ويفهم النص"..
واستخدم الفاسيون تلك الطريقة - في المقام الأول - في تقييد التركات، بغرض منع التلاعب والتزوير فيها.



هذه نماذج من مقال للأستاذ محمد الفاسي بمجلة مجمع اللغة العربية المصري بعنوان « حساب القلم الفاسي » وهي صورة من وثيقة تقسيم تركة كُتبت بالقلم الفاسي.
ولئن كان القلم الفاسي قد اشتهر وارتبط بتقييد التركات وما يخشى وقوع التزوير فيه، فإن استخدامه لم يكن مقتصرًا على تلك الوثائق، بل استخدمه العلماء والنُّسَّاخ في تأريخ المخطوطات، ومثال لذلك كتاب « طبقات الأطباء » لابن جُلجُل (ت بعد 377هـ) الذي نشره الأستاذ فؤاد سيد كانت نُسْخته مؤرَّخة بحساب القلم الفاسي، وقد استعان بالعلامة حسن حسني عبد الوهّاب (ت 1388هـ/1968م) لحلِّ تعميتها.
أيضا من المخطوطات المؤرّخة به:
- نسخة كتاب الشفا للقاضي عياض المحفوظة بخزانة القرويين برقم (1865)، فقد أُرِّخت بحساب القلم الفاسي في سنة (1144هـ).
- نسخة فيها المجلدة الثانية من « كتاب الأفعال » لمؤلِّف غير معروف برقم (1242) في الخزانة نفسها، وهي مؤرخة سنة (449هـ)، وعليها تحبيسُ السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي في سنة (1175هـ)، وقد كتب تاريخ التحبيس بالقلم الفاسي.
ولم يتوقفْ استخدام القلم الفاسي عند ذلك، بل ربما استُخدم في تعمية الرسائل السرية على المستوى الدبلوماسي والعسكري (في بلاد المغرب)، وقد رجح الدكتور عبد الهادي التازي أن يكون هذا الاستخدام قد بدأ في (رجب1322هـ = سبتمبر 1904م) أو قبل ذلك، ثم أعيد استخدامه في ذلك التاريخ [ « تقديم مخطوطة مغربية حول المراسلات بواسطة الأرقام العربية »،  مقال بمجلة مجمع اللغة العربية المصري (51 /196)].

أما استخدام القلم الفاسي للمرة الأولى فيمكن الجزم بأن ذلك كان قبل عام (669هـ) وهي سنة وفاة الصوفيالمعروف أبي محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر الأندلسي، الشهير بابن سَبْعِين، فقد ذكر المقري في ترجمته لهذا الأخير نقلا عن الشريف الغرناطي - أن ابن سَبْعِين « كان يكتب عن نفسه:
يعني الدارة التي هي كالصفر، وهي في بعض طُرق المغاربة في حسابهم سبعون؛ وشُهِر لذلك بابن دارةَ - ضَمّن فيه البيت المشهور:
... ... ... ... ...       محا السيف ما قال ابنُ دارَةَ أجمعا» اهـ([1])
والظاهر أن ابن سَبْعِين كان يعجبه التفنن في ذكر اسمه ونسبه، فقد ذكر في آخر كتابه «الإحاطة» ما نصّه: «هذا تقييد قيل فيه الحق، وظهر فيه الحق، وأملاه عبد الحق، وبالضرورة أن الفرع محمولٌ على الشجرة، وبالاتفاق قامت شُهرة الواضع من ضرب سبعة في عشرة»، و(7×10)، إشارة إلى شهرنه بابن سَبْعِين.
وقد نقل د. قاسم السامرائي عن بعض المستشرقين أن الأرقام الفاسية استخدمت في الأندلس في القرنين السادس والسابع للهجرة، فإن صحَّ ذلك فيكون القرن السادس أقدم تاريخ لاستخدام الحساب الفاسي.

وإن كان القلم الفاسي لم يكن يستخدمه - يوم كان يُستخدم - إلا القضاة والعدول، فمع مرور الوقت وقلة مستخدميه لم يَعد يعرفه أحدٌ، إلا الواحد بعد الواحد من أهل العلم، يقول الأستاذ محمد الفاسي: « هذا، وإن القلم الفاسي لم يبقَ أحدٌ يعرفه من عدول فاس وقضاتها، وفي الماضي كان كل مَن يدلي برسم عدلي لدى أحد القضاة يبدأ هذا الأخير بالتعريف بالعدلين الموقعين عليه، وبالقاضي الذي جعل عليه علامته، ثم ينظر في أشكال القلم الفاسي ويُصدِّق على الكلِّ بما يُسمَّى «الإكمال»، أي: يجعل الوثيقة معمولا بها».
وصرَّح من قبله الشيخ أحمد سْكِيرج أن القلم الفاسي «قليل الدوران بين العدول المتقدِّمين، ولا يعرفه غالبًا إلا مَن له ممارسة وبحث واعتناء بالأمور»، وقد قال ذلك في سنة (1316هـ)، وهي السنة التي ألَّف فيها «إرشاد المتعلم والناسي في صفة أشكال القلم الفاسي».
نماذج رموز القلم الفاسي
رموز الآحاد


رموز العشرات



رموز المئات



رموز آحاد الآلاف


رموز عشرات الآلاف


رموز مئات الآلاف




رموز الكسور


رمز الصفر





(2) نفح الطيب (2/196)، والدارة في حساب القلم الفاسي ترمز إلى سبعين.

الأحد، 25 يناير 2015

هل كان الصحابي أبو ذر الغفاري اشتراكيًا (مثال لانتزاع الحوادث من سياقها التاريخي)



كتاب الأعلام للزِّركلي (1893م-1976م) من أهم كتب التراجم المؤلَّفة في العصر الحديث، ولا يكاد الباحث يستغني عنه، ومع الفوائد الجليلة للكتاب، لكنه لم يخلُ من انتقادات، وهنا سأعرض لواقعة تاريخية أخرجها الزِّركلي من سياقها التاريخي، ربما لمنزع "القومية" التي  تبناها وناضل من أجلها..
قال الزِّركلي في ترجمته لأبي ذرٍّ الغفاري t [الأعلام 2 / 140]: "فسكن دمشق وجعل ديدنه تحريض الفقراء على مشاركة الاغنياء في أموالهم، فاضطرب هؤلاء، فشكاه معاوية (وكان والي الشام) إلى عثمان (الخليفة) فاستقدمه عثمان إلى المدينة، فقدِمها واستأنف نشر رأيه في تقبيح منع الأغنياء أموالهم عن الفقراء، فعَلت الشكوى منه، فأمره عثمان بالرحلة إلى الرَّبَذة (من قرى المدينة) فسكنها إلى أن مات.
وكان كريمًا لا يخزن من المال قليلاً ولا كثيرًا، ولما مات لم يكن في داره ما يكفن به. ولعله أول اشتراكي طاردته الحكومات." اهـ كلامه

وواقع الأمر بعيد جدًا عما توهمه الزِّرِكلي، وكأنه يروي قصة من نسج خياله، فقد كان أديبًا يقرض الشعر! وهذا الأسلوب الثوري السياسي وليد ذهنية ثورية قومية عروبية متشددة.. هذه الذهنية التي منعت الزركلي من وضع أي من السلاطين العثمانيين بسبب موقفة السياسي من الخلافة..
وهنا نجد أن الصورة التي تصورها المؤلِّف عن قصة الصحابي أبي ذر الغفاري ليست صحيحة تاريخيًّا.. إنما الأمر أن أبا ذرٍّ t كان يفسّر آية من كتاب الله تفسيرًا مغايرًا لتفسير معاوية t وعثمان t، بل خالف فيه تفسير معظم الصحابة y، ويحكي لنا البخاري رحمه الله هذا الخلاف في صحيحه عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ:
"مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ t، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: ) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( [سورة التوبة: 34] قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا، وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنْ اقْدَمْ الْمَدِينَةَ. فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ: لِيّ إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا. فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا، لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ."[البخاري، حديث: 1406]
ولذلك كان يحرض الأغنياء أن ينفقوا أموالهم، وليس كما قال المؤلِّف أنه "جعل ديدنه تحريض الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم." وكان الدافع له هو الخوف على الأغنياء من أن يصيبهم الوعيد في الآية، لأنه يرى أنه لا يجوز كنز المال فوق حاجة الإنسان، فلم يكن هدفه شركة الفقراء في أموال الأغنياء ولم يكن هدفه أغناء الفقراء لأن رؤيته تقتضي أن الفقراء لا ينبغي لهم كنز المال إن حصَّلوه ..


وأما الحكومة التي قال عنها المؤلِّف أنها الحكومة التي تطارد الاشتراكين، إنما كانت خلافة راشدة، في المنظور الإسلامي، ولكن الزركلي يعيش حالة عداء ذهني مع مسمى الخلافة لعدائه الشخصي مع الخلافة العثمانية! وهذه الخلافة الراشدة في واقع الأمر لم تطارد أبي ذرّ، بل هو الذي آثر الخروج من المدينة، ولم يطرده الخليفة عثمان t .. وذكر الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث المذكور ما يبين الأمر على حقيقته، فقال رحمه الله:

"قَوْله: ( بِالرَّبَذَةِ ) بفتح الراء والموحدة والمعجمة مكان معروف بين مكة والمدينة، نزل به أبو ذرّ t في عهد عثمان t ومات به، وقد ذكر في هذا الحديث سبب نزوله، وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان t كانوا يُشنِّعون عليه أنه نَفَى أبا ذر t، وقد بَيَّن أبو ذر t أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره. نعم أمره عثمان t بالتنحي عن المدينة؛ لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه المذكور، فاختار الربذة.
وقد كان يغدو إليها في زمن النبي r كما رواه أصحاب السنن من وجه آخر عنه، وفيه قصة له في التيمم.
ورُوِّينا في فوائد أبي الحسن بن جذلم بإسناده إلى عبد الله بن الصامت قال:
"دخلت مع أبي ذر t على عثمان t، فحسر عن رأسه، فقال: والله ما أنا منهم، يعني: الخوارج. فقال: إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة. فقال: لا حاجة لي في ذلك ، ائذن لي بالربذة . قال: نعم.". ورواه أبو داود الطيالسي من هذا الوجه دون آخره.
وقال بعد قوله "ما أنا منهم":
"ولا أدركهم ، سيماهم التحليق ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت" [مسند الطيالسي، حديث: 451].
وفي "طبقات ابن سعد"  من وجه آخر أن ناسًا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر t وهو بالربذة:
"إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب لنا راية - يعني فنقاتله - فقال: لا، لو أن عثمان t سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت". " انتهى كلام ابن حجر [فتح الباري 3 / 274]..

وزاد في [الطبقات الكبرى 4 / 227] على ما نقله ابن حجر: "والله، لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة، أو أطول جبل، لسمعت وأطعت، وصبرت، واحتسبت، ورأيت أن ذاك خير لي، ولو سيرني ما بين الأفق إلى الأفق، أو قال: ما بين المشرق والمغرب، لسمعت، وأطعت، وصبرت، واحتسبت، ورأيت أن ذاك خير لي، ولو ردني إلى منزلي، لسمعت، وأطعت، وصبرت، واحتسبت، ورأيت أن ذاك خير لي."

فالأمر إذن بعيد كل البعد عن تفسيرات الزركلي، وإنما وقع في ذلك لأنه انتزع الخبر من سياقه التاريخي، واحتكم في تفسيره لمعهود عصره عصر القومية العربية والنزعة الاشتراكية

تحميل كتاب المخطوطات Coronavirus  google download books